واو!؛ رسالة؟!؛ أخيرا عاد هذا النت التعيس!، متى أُرسلَت؟؛ بالتأكيد؛ هي رسالة خاطئة أو عابثة؛ لكن كيف عرف اسمي بدقة، لعلها بداية مرحلة الإنكار، سأقول لمن بشرني -لو اتصل- إنك تمزح، لم يتصل أحد!، إذن هي الكاميرا الخفية!، أو تلك الأحلام اليقِظة التي تستخف دمها!.
"عزيزي ... : تهانينا؛ فقد استحققت جائزة المليار دولار، نرجو التواصل مع إدارتنا الإقليمية لاستلام الجائزة، وشكرا"!، مليار دولار!؛ لماذا؟!، ليس لي عم في كندا، ولا عمة في أستراليا، ولا أوراق يانصيب اشتريتها في جولتي حول العالم لأتخلص من إلحاح الباعة، ولست مُسهِما في شركة بترول عملاقة تمت تصفيتها، ولا أملك ضيعة كبرى أبادتها جائحة فوجب دفع مبلغ التأمين، نعم؛ لماذا المليار؟ ولماذا أنا؟، كأني بها نمط مُحَسَّن من الرسائل الاحتيالية القديمة: "وجدتُ آثارا ثمينة جدا في أرضي، تعال ساعدني على استخراجها بتعويذة لا تُقبَل إلا منك، ولك النصف"، "لي زوج مات في بوليفيا، وقد سرق مبلغا كبيرا وأخفاه؛ أعجبتني شخصيتك؛ فتعال أظهره؛ ولك النصف"، "تمكنت بالتعاون مع صديقي من تزييف مليارات العملات والسبائك الذهبية، وقد رشحناك بناء على قدراتك المتوسمة لتقوم بتوزيعها في غرب إفريقيا، ولك النصف" ... ، كلهم يحتاجونني ويَعدونني بالنصف!، يا لي من مهم!؛ إذن؛ لا بد من التجاهل.
يأتي أكثر من إشعار بضرورة التوجه إلى الجهة الإدارية المولجة بتسليمي المبلغ، وأنا أواصل التجاهل؛ لا زهدا؛ بل إنكارا، وتساورني الشكوك بأن هناك مَن يترصدني وفي جهازه التنفسي مليار قهقهة قائلا وهو يسترجع أنفاسه: قول باي للكاميرا.
يحضر مندوب من الجهة المالية سالفة الذكر مؤكدا ضرورة الحضور، أطرد المندوب؛ لأنه يهزأ بي، ولا أعبأ بتسويغاته وتسويلاته.
لا أُلام؛ فالنفس البشرية تخشى المفاجآت، ولنا في ذلك الذي استلم واديا من الغنم بعدما ثمَّرَه له شخص أمين حبسَته مع صاحبيه صخرة؛ فأنجته أمانته، أما تارك حقه الذي تضاعف إلى أن أصبح واديا من غنم؛ فلم يصدق ما رآه من وفرة ماله الذي لم يتعب في تحصيله؛ بل خشي أن يكون صاحب العمل الأمين هازئا به.
ولأرجع مرة أخرى إلى حالي المترددة بين يسر الحال والثراء الباذخ بعد هبوط مليار دولار على ممتلكاتي، لا يرجع المندوب المطرود؛ بل تأتي لجنة مشَكَّلة من ثلاثة أشخاص أحدهم مدير رفيع المستوى؛ كيف لا؛ ألست مليارديرا، يقرعون الجرس مرة واحدة، فأجيب متلعثما متضجرا من عصف الأحداث والأشخاص الغرباء ، أفتح الباب؛ فإذا الأشخاص المهندمون والأصوات الخفيضة والتهنئات المنمقة، وهم يشيرون إلى سيارة فارهة ويطلبون مني؛ كأنهم يستأمرونني بالتلطف والتعطف والخروج معهم، ينتابني شعور أن القوم هم من جهة أَمنية يريدون اصطحابي إلى جهة مجهولة للتحقيق معي؛ لكنني أخوف من الخواف؛ فلساني معقود وقلب منطوٍ على حب السُلطة حقيقة لا تقية!، ثم إني لست بهذه الأهمية حتى تتلطف بي تلك الجهات؛ فلو بدَر مني شيء لا قدر الله؛ فسأساق على الرغم مني علنا في وضح النهار، تخامرني فكرة أخرى أنهم يريدون خطفي للمقايضة بمبلغ كبير نظير إطلاقي؛ ولكن مَن أنا وماذا أملك من مبلغ يُشبع هؤلاء أو أولائك؛ فيحتالوا علي وعلى أسرتي وأقربائي؟!، أتأخر عشر خطوات ولا أكاد أتقدم نصف خطوة، تبقى اللجنة على العتبة وهم صامتون ثم يتحدث كبيرهم مطَمْئنا، لا أكاد أصدق، تخرج اللجنة وتغلق الباب بهدوء شديد كي لا تؤذي أعصاب الملياردير المحْدَث.
أكاد أضرب رأسي في الجدار لكثرة التفكير بالمنطق واللامنطق!، هل حق أني امتلكت مليارا؟، هل أسأل أصدقائي وأقربائي؟، لا أستبعد إن فعلت ذلك أن يشكلوا هم لجنة أخرى لاختطافي والذهاب بي إلى مستشفى الأمراض العقلية أو النفسية؛ لا يهم، هل أبلغ الشرطة بمسلسل الأحداث منذ وصول الخبر إلي حتى ما بعد مغادرة اللجنة المهندمة؟، فلنفترض أني أبلغت؛ سيسألني الضابط عن المطلوب، هل أريد التقصي عن حال تلك الثروة أو حمايتي أو ماذا؟، حقيقة لا أدري؛ لكن الأحسن أن أنام إن استطعت ذلك.
قال أنام قال!، إنه عطاء لا ينبغي لمثلي المتردد المتوجس المتفاجئ أن يحلم به!، أستهلك عشرات فناجيل الشاي، أشربه في فنجال ليمضي مزيد وقت بين الصنع والسكب، أحس أن الكأس لا تستهلك وقتا يمضي بطيئا كأنه غيداء تحاول إغراء نصف مليونير في بلد الغربة، أتصفح كتبا؛ فلا أكاد أفهم شيئا، أفكر في تمزيق الصفحات وإراقها في الماء المغلي المعد لصنع الشاي!، أفتح التلفزيون على فيلم قديم كان يضحكني كثيرا، فأحس أنه ثقيل الظل؛ وإن كان بلا ألوان؛ فهو بلا طعم!، يحلو لي كثيرا أن أذرَع البيت بقدميَّ ذهابا وإيابا محيطا رأسي بيديَّ، رأسي الذي يرقص فيه إيقاع آلات عَد الفلوس،هكذا إلى أن أذَن الفجر، أحس بالفرح؛ فلطالما كان الصباح أكثر مواساة من الليل المفرِد.
أصلي الفجر ويكون خير، لا أدري كيف صليت ولا ماذا قلت، حسبي الله!، أرفع هاتفي ثم أضعه؛ كأنها رياضة صباحية بلهاء!، أتشجع وأتصل بأبي وأخبره، يسألني ويستعيدني فأعيد الحديث؛ ليقول بعد صمت أظنه طويل: شكلك ما صليت يا...، توضأ واغسل وجهك واستعذ بالله ولا تثقل في الأكل، ثم ينقطع الاتصال؛ لماذا انقطع؟!؛ الهاتف جيد على قِدمه، والنت راضٍ عليَّ، نعم؛ زميلي يتصل ويطلب مني إنهاء بعض الأوراق في مكتبه؛ فهو غير قادر على الحضور، أخبره بالمليار؛ فيضحك ويقول: ارقد، سأتصل بزميلنا الآخر؛ لعله أكثر تركيزا منك، لا تنسَ نصيبي في كم مليون!، ينقطع الاتصال أيضا!، ما لهذه الاتصالات هذا الصباح؟!
سأستلقي؛ أجل أستلقي، لن أذهب إلى العمل اليوم؛ فإن كانت الثروة حقيقية؛ فما حاجتي إليه؟، وإلا؛ أخذتها إجازة مرَضية، اضطرارية، خصم، لا يهم.
يصيح الهاتف، الساعة التاسعة؛ كيف مر هذا الوقت؟، لا أحس أنني ارتحت، أجيب المتصل بتململ، يُعَرف بنفسه مستعجلا الحروف، يحدثني بلهجة صارمة متلاطفة:: إذا لم تستكمل إجراءات استلام الثروة؛ فنحن لسنا مسؤولين عن مصادرتها من أي جهة، أرفض الحضور، فيعرض عليَّ معاودة زيارة تلك اللجنة شبه المطرودة والسماع منها، لِمَ لا أوافق، وما كدتُ ألفظ حروف الموافقة حتى أخبرني أن اللجنة في طريقها إليَّ!، أسأله: ما هذه الجهة؟، ولماذا أنا؟، يقطع أناي بالمقولة ذاتها: اللجنة في طريقها، لم يجبني؛ مهم يا عمي ويحق له ما لا يحق لأمثالي!؛ لكن لماذا ينقطع الاتصال أيضا!
يعود الجرس إلى صلصلته باستحياء، يجب أن أعاملهم باستخفاف وحذر؛ كما كنت وما زلت أفعل مع اتصالات الاستثمارات مجهولة المصدر، إنهم هم لم يتغيروا أو يغيروا أزياءهم وحقائبهم؛ كيف جاءوا بهذه السرعة؛ لا بد أنهم رابطوا تحت العمارة في انتظار الإشارة!.
أحدهم مدير والآخر مسؤول استثمار والثالث مسؤول علاقات عامة ومقرر الاجتماع، ثلاثة رابعهم أنا الذي لا أدري ما شأني؟!.
لم أقدم لهم حتى كأس ماء، كنت شحيحا في الترحيب والمعلومات مبذرا في الإسئلة، هي عدة الاستخفاف والحذر، اللجنة تعمل ولا تكترث؛ هي مدربة على هكذا أنماط من الشخصيات!، يسألني المدير إذا كنت قد نشرت منشورات عبر وسيلة التواصل التي يمثلها، فأبادر بالإيجاب وأسأل عن السبب؛ خشيت أن يسألني عن الرقم السري لحسابي ويوقعني في إشكال مالي أو أمني؛ فلأحذَر أكثر، يتجاهل التعليل ويسألني إن كنت قد سمعت عن مسابقة منشور المئتي تريليون؛ لم أسمع بهذه المسابقة، أسأل بتعالٍ مصطنع: اشرحها لي؛ فربما أكون قد سمعت بها، يجيب أنها جُعلت ليتنافس مستخدمو الوسيلة في النشر، ومن ينشر المنشور الذي يصل بمنشورات الوسيلة إلى الرقم مئتي تريليون؛ فسيحصل على جائزة قيمتها مليار دولار، وأنني من أوصل المنشورات إلى هذا الرقم!، قال في معاتبة هادئة: حاولت الإدارة الرئيسة والإدارة الإقليمية الوصول إليك وأُرسِل إليك عشرات الرسائل عبر الوسيلة والإيميل وسبقنا مندوب إليك؛ لكن لا استجابة، هو لم يعلم أن النت كان متعطلا؛ ومع ذلك أجبته بفوقية أني مشغول عن متابعة هذه الوسيلة أو تلك وأن علاقتي بالنشر تبدأ وتنتهي بالضغط على زره؛ المهم أين المليار؟ هاه، يجيب العضو المسؤول عن الاستثمار أن الجائزة ليست كاش؛ بل هي مجموعة أسهم في شركة الوسيلة العملاقة التي سترفعني إلى عضو في مجلس إدارتها، وأن السهم حُدِدت قيمته ب250 دولارا؛ لذلك فنصيبي هو 4 ملايين سهم، وأنه لا يحق لي التصرف فيها قبل خمس سنين، أجبته هازئا: وهل أبقى سنين شِدادا أُشبِه البقرات السمان التي يأكلها بقرات عجاف؛ وأنا أملك المليار؟؛ ماذا استفدت؟!، أجاب مسؤول الاستثمار أنني أستطيع بضمان الأسهم الحصول على قروض لشراء عقارات أو إنشاء مشاريع، قاطعته: وأتابع الاقتراض من صاحب البقالة إلى أباطرة المصارف؟، إما أن يدخل المليار كاملا الآن في حسابي أو لا حاجة بي إلى خرابيطكم هذه، تَدَخَل مسؤال العلاقات العامة باقتراح يبدو أنهم دبروه بينهم؛ إذ لم يبد على أي منهم علامات التفاجؤ، هو يقترح أن تقوم الإدارة الإقليمية بتمويل سفري إلى موقعهم الرئيس لاستكمال إجراءات استلام المليار والبحث مع كبار المدعوين إلى الحفل في سبل الاستثمار، قاطعته أيضا قائلا، هو الاستثمار ورائي ورائي، يعني لن أتفاوض معهم في بيع جزء من الأسهم أو اختصار مدة استبقاء الأسهم إلى أسبوعين على الأكثر؟، أجاب مندوب الاستثمار بالنفي الباتر، أضاف مندوب العلاقات أنني لن أتحمل في هذه السفرة إلا قيمة التنقلات ورسوم الخبراء الذين ينوبون عني في التفاوض مع المستثمرين، أما بقية المصروفات فيمكنني دفعها على أقساط؛ نعم؟؛ أقساط؟!، أقساط؟.
سكتُّ قليلا وأنا أفرقع أصابعي وأداعب شعيرات لحيتي، ثم أشرتُ إلى الباب طالبا منهم الخروج، لم يتحرك أحد؛ بل ظهرت عليهم سيماء التعجب، سألني المدير عن خطوتي المقبلة، فأجبته أنها ستكون باتجاه الباب لأغلقه بعد خروجهم؛ لا أريد المليار، المدير يندهش ويجب أن يندهش الآخران، يسألني المدير: أتعلم ما المليار دولار بالعملات الوطنية؟، يكفي أن تنظر إلى أصفاره؛ فكل صفر يطير بك لتكون نجما، أتدري كم سيكفيك ويكفي مَن بعدك؟، ما هذا الزهد أو ... لا تجعلني أكمل؟!، أجبته: قُلها: ما هذا الغباء؟!، عادي، هكذا أنا، لا تعنيني أصفار المليار ولا حتى الألْف ما لم تكن حاضرة في قبضتي كما لا يهمني معرفة أصفار التريليون، الذي أفهمه أن صفرا واحدا أستطيع تجاوزه ستُنزِلونني عنه إن أنا استجبت لكم؛ على أية حال لا تقلقوا وطمئنوا إدارتكم الرئيسة وراء البحار أنني وإن لم أتابع ردة فعل العالم بسبب حماقتي هذه؛ لكن إذا استيقنت من صحة الجائزة؛ فسأحضر كلبة وليدة من الشارع وأربيها وأسميها "مِلْياْ" وسأوصي علنا لها ولأولادها بكامل المليار المبتسر بعد تسييله وخصم الضرائب والمصروفات النثرية والإدارية ومقدار تحرك سعر السهم وأجور الخبراء والمحامين.
كتبها: أبو ليث عبد العزيز بن صالح الحسني الزهراني.
مكة، مساء السبت 27/2/1446هـ، 31/8/2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق