المتابعون

الجمعة، 12 مارس 2021

بشريتهم!

لأن أنبياء الله -عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام- بشر؛ فإن بشريتهم تتطلب أن يناموا ويأكلوا ويشربوا ويتزوجوا كما نحن عليه، إن بشرية الأنبياء -عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام- آية عظمى من آيات الله -سبحانه وتعالى-؛ فكيف ستأمنهم أممهم وتأخذ عنهم؛ لو كانوا ملائكة أو خالفوا سَنن البشر في حياتهم العامة؟!، بشريتهم تجعلهم قابلين للأذى ولكنهم يحتملونه في سبيل إبلاغ رسالتهم؛ لذلك فهم لا يدخرون وُسعا في البحث عن حلول في مواكبة الثقة بالله والصبر، إنهم وإن بلغوا الكمال البشري في أممهم؛ لكنهم تركوا مساحة كبيرة لمن شاء أن يتقدم؛ لعل العالم يتعلم.
هذا نبي الله نوح -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- يقضي [ألْف سنة إلا خمسين عاما] داعيا سرا وجهارا متحملا أذى قومه؛ كيف -بالله- مرت به الليالي؟!، كيف هنئ بنوم أو طعام مدة تلك القرون؟!، يأتيه الأمر بصناعة الفُلك فيسخر منه قومه وهو يجهد في الصناعة ثم يفور التنور ويهيج البحر وتتدفق السماء ويموت ابنه أمامه كافرا عاصيا له ويسير بالمؤمنين معه في موج كالجبال ومع ذلك فهو بشر مثلنا؛ لكنه نبي، وهو ببشريته يعمل ويبحث عن حلول حتى في أحرج المواقف.
وهذا نبي الله إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- يكذبه قومه ويصنع أقرب المقربين إليه من حيث النسب الأصنام ويناظر الملك ويحاج قومه منتظرا ظهور كوكب وقمر وشمس ويغيب عن احتفالاتهم ليدخل معبدهم ويحطم أصنامهم وينتظر الموت حيث الحطب يُجمع والنار تتأجج ومع هذا له ثقة بالله؛ بشريته علمتنا أن له عقلا أَعملَه في بلوغ هدفه، يودع زوجه وابنه الأوحد [بواد غير ذي زرْع] مستسلما لأمر الله، إيمانه وبشريته تجعلانه يضع لهم ماء وزادا وإن قلّا؛ لكنه يذكِّر زوجه أن الله أمره.
وهذا نبي الله يوسف -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- يبتلى بفتنة سيدته، يدخل السجن بضع سنين مظلوما؛ ومع هذا علَّم مراوِدته درسا في العفة ودفع عن نفسه التهمة ودعا في سجنه صحْبه، لم يصب بأمراض قلة النوم أو أعراض الهلوسة التي تصيب المستسلمين للأزمات، نعم، هو نبي؛ ولكن مماثلة الناس في بشريته تعلمهم ألا ييأسوا.
وهذا نبي الله موسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- يخرج من مصر خائفا يترقب، يتوجه تلقاء مَدْيَن، ينام في العراء، يخرج من مَديَن بأهله في جو مظلم شديد البرودة فيجد نارا هي نور الله الذي كلفه بحمل الرسالة، يقع بين أذى فرعون وملئه وتململ بني إسرائيل؛ ومع ذلك يحاج فرعون ويصبر قومه، ينطلق خائضا البحر مرددا: [كَلّاْ إن معي ربي سيهدينِ]، إنه ببشريته لم يستسلم للمصاعب بل تزوج وعمل أجيرا، وبلغ الدعوة وبحث عن الحلول المنجية واثقا بالله.
وهذا نبي الله يونس -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- يذهب مغاضبا قومه، يركب السفينة فيكاد أهلها يغرقون، يخرج السهم عليه فيُلقى فيه ليجد الحوت في انتظاره، يبتلعه ويلبث فيه مرددا: [لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين]، انغلقت دونه الحيل؛ فكان التسبيح طوق نجاة، سمعه الله -تعالى- فأوحى إلى جهاز الحوت الهضمي ألا يؤذيه، يخرجه الحوت، يلقيه الموج في البر بأمر الله، ينبت الله عليه شجرة من يقطين فيصلح جسده، من ظن أن لا حول ولا قوة به فليتذكر القوي العزيز، للبشر رب.
أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فالحديث عن سيرته لا يكاد ينتهي، والعهد بها قريب؛ والحمد لله، رعى الغنم، تزوج، ومات أكثر أولاده، أوذي وكُسرت رباعيته، كاد له الكفار والمنافقون واليهود، وماذا يُستقصى من بشريته التي هي مدرسة للعالمين؟!؛ فهل من معتبر؟
قد يقول قائل: فما شأن أنبياء قُتلوا مثل زكريا ويحيى وأنبياء يأتون يوم القيامة وليس معهم من الأتباع إلا القليل إن لم ينعدموا عند بعضهم؟؛ فيقال لأولئك: وهذا أبلغ حجة على بشريتهم، ليس كل مَن حاول بلغ في دنياه؛ لأن هناك آخرة فيها الجزاء، ثم مَن قال إنهم لم يبلغوا مرادهم؟؛ فمجرد ذِكرهم في القرآن والسُنة دليل على البلوغ والإبلاغ وأن ذلك أحدث أثرا، وإن لا فما يمنع اليهود من إنكار زكريا ويحيى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام؟، نحن مخلوقون لعبادة الله سبحانه، ومن مفردات العبادة عمارة الأرض وفقا لأمره تعالى، نبذل وُسعنا في ذلك تفكيرا ودعوة وصبرا، فإن بلغنا؛ فالحمد لله، وإن لا فرجاؤنا في الله لا ينقطع.
وقد يقول آخر: هؤلاء أنبياء، وأين لنا بمثل إيمانهم وعلاقتهم الوثيقة بمن لديه مقاليد السماوات والأرض؟، هذا صحيح؛ ولكن لماذا اختار الله -سبحانه- الأنبياء بشرا يجري عليهم من التواصل والاحتياجات والألم بل حتى الموت ما يجري علينا، إنها رحمة من الله الرحمن الرحيم كي نتعلم كيف نفكر لبلوغ الهدف وإبلاغ الرسالة وكيف نصبر أثناء البحث عن مخارج وكيف نغلف ذلك كله بالإيمان والثقة بالله تعالى.
معلوم أن فينا تقصيرا لا يخفى؛ ولكن الله هو غافر الذنب وقابل التوب وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا، ثم إننا مع قصورنا وتقصيرنا إلا أن معين الهداية وبصيرة الاستهداء للكل، والفضل لمن أقدم ودعا وأحسن المتابعة، والله المستعان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق