المتابعون

الجمعة، 10 ديسمبر 2021

شيء من حب!!!

لو كان الحب كلمة؛ لكانت الأقلام أكثر هُياما من مجانين الغرام، ولو كان الحب مالا؛ لكانت سجلات المصارف أكثر عشقا من دواوين الغزل، ولو كان الحب مصلحة؛ لكانت مسارح الساسة أكثر تضامّاً من العالقين في أراجيح الهوى.
الحب باختصار وبكل تفاصيله هو الحياة، حيث الائتلاف المتنازل والاختلاف المتكامل، حيث البعد المتشوق والاقتراب المتذوق، حيث اللوم الناعم والوصل الدائم، الحب رئتان تنعش قلبين فيقيتان روحا واحدا، الحب نفْس أبت إلا أن تسكن جسدين فنظمتهما ليدشنا بتوحدهما عقد زمن أحلى؛ كل درة منه تقول : "أحبك"!!!

الحب لا يعرف الحقيقة؛ فكم عاش خيالا لا يتغير بتغير العمر!، وكم ازداد جمالا؛ فلم ترهقه نقوش السنين!، وكم استمر رؤيا لم يوقظها ضجيج الصباح!، وكم بنى في الأحلام قصورا مخملية على أراجيح نبض الكواكب ومضى في بحر التماهي على مُذْهَبات المراكب!، لو تَمَحَّض الحب في كينونة الحقيقة؛ ما عاش غرام ولا اشتعل شوق ولا جرت دمعة في سَموم زفرة.
الحب لا يعرف الاستسلام؛ فلئن كان سلاما في شكله؛ فهو حرب بين عقل مستكبر وعاطفة متمردة!، وهو مواجهة نافرة بين واقع يؤمن بالجسد والمصالح وبين نفس نسيَت الشكل وتنازلت خاضعة لمضمون فهمَتْه هي بطريقتها، الحب اختلاف ومخالفة لوقت يسرق المشاعر ولتقارب أرواح لا يعترف بمكان، حاشا الحب أن يُرَى بُعداً؛ ولو جعلوه الأول؛ بل هو فقط القُرب الأوحد بين بشَر لم يُخلَقوا صخورا تتكسر ولا جزيئات تتشظى.
هكذا الحب؛ مواجهة لا تحده حقيقة في ميدان يجهله كل المحبين، أعمق من خيال وأطول وأحلى من حُلم، مواجهة ينتصر فيها الأحباب، ولا حقيقةَ يستحقونها إلا أن ينسى كلٌّ نفسه ويعيش الآخر!.

يرى بعضهم أن الأكثر حُباً هم الرجال؛ فهُم يفنون حيواتهم من أجل كلمة رضا ويسطرون الملاحم الشعرية لوصف الأشواق، وكم من رجُل مات هُياما، ولا يكاد يُعرف عن امرأة أنها ماتت عشقا ابتداء، والشواعر المُحِبات واللاتي أفنين حيواتهن يسترضين أحباءهن قِلة!.
هذا صحيح؛ ولكن القائلين بهذا نسوا أن المرأة حيية بطبعها؛ وإن لم تُحَط بقيود الدين أو العُرف، ثم إنها تظن -وهي محقة- أنها إذا كانت صيدا سهلا أو بحثت هي عن الرجل؛ فقد لا يقدرها حق قدرها، ثم مَن قال إن المرأة غير مبادرة؟؛ إن هامش اهتمام ورسائل خفية عبر الوسطاء لهي أكبر دلائل الميل؛ لكن المرأة تراهن على ذكاء الرجل وصدق حبه وصبره على نيل حبها ولو المبطن، إن المرأة بحيائها تتألم بصمت وترحل في هدوء وقلبُها ديوان حرمان لا تجيد قراءته إلا ثواني أحلام عاشها مَن حياته هي حياتها.
وفي كوكب الحب؛ الرجل صوته الذي لا يخطئه فؤاد نابض، والمرأة صورته وكتابه وومضة تنتظر وفدا من عقل وعاطفة وروح تصنع منها رافعة إلى نجم الغرام الآمن الدافئ، الرجل -وإن كان صوتا للحب؛ فالمرأة صداه الحنون، وإن كانت المرأة صورة الهوى؛ فالرجل مرآته التي تشف عن قلب لا يُعرف أيهما شِق للآخر، ويبقى الزوجان في غلالة المحبة آية على الرحمة التي عز إدراكها، وغاية السكون النفسي في عالَم مضطرب!، إنه اكتمال الحب صوتا وصورة ونبضا وصبرا ووفاء وولاء دليلٌ لكل محروم ومأزوم أن نصف الأوان بفجره الآمل طالع غوثا للقلوب، نعم؛ لا يأس في الحب، ولئن كان الزوجان اثنين؛ فكلمة حب من حرفين اثنين؛ وهل هناك تماهٍ أكبر من هذا؟!!!

مَن لا يشتاق؛ فهو غير مُحِب، لا يجوز في قانون الهوى أن يُدعَى على الشوق بالموت، الشوق هواء الهوى؛ فإذا مات الشوق؛ صار الهوى جسدا وشهوة تنتهي في بضع دقائق، الاشتياق حياة الغرام وغوث الهيام، ما الذي حرَك مشاعر الشعراء إلا الشوق؟!، ما الذي أسال محابر ومدامع متوسلي القُرب وكلمة الرضا غير الشوق؟!، ما الذي أسهر الحالمين يرقبون فجر الوصال؟؛ أليس لسع الاشتياق؟!، هل نار الشوق إلا الدليل الأصدق على وضاءة الحب واستمراره واستمرائه؟!
قد يغيب الشوق قليلا عن الفؤاد إن حضرت ذات المعشوقة؛ ولكنه لا يلبث حتى يعود عبيرا مثيرا في كل ثناياها، لمْس كفيها يشعل الاشتياق إلى لمس شَعرها، تأمُل خصلاتها يثير الاشتياق إلى تصفح قسمات وجهها، نَطْقها حرفا ما يثير لواعج الاشتياق إلى حروف أخرى تداعبها شفتاها، إن سكتَتْ يثور الشوق فتهدهده أنفاسها، كل شيء فيها ومنها وحولها لا يسلم من احتضان الأشواق وضمة المحبة، هل كان الاشتياق فيها إلا افتتانا وافتنانا؟!، تغنيه همساتها، ويذيبه التصاقها.
الشوق قدَر المحبين الحلو المر، المحبة يفضحها الاشتياق ويُذكي فيها خيالات اللقاء وتفاصيل الملاقاة، هكذا هو اشتياقنا نحن الرجال؛ يقتلنا ليحيين هُن، ويبقينا لنرضي غرورهن الساحر!، هكذا اشتياقنا نِداء لا يفتُر ونَدى في وجوه المُحَبات!، هكذا الشوق؛ يذلنا لهن؛ فنعتز ونتباهى بسانحة اهتمام!، إنه الشوق المُبَرِّح مُخْضِع الكبرياء وباسم الحب هو سيد التنازلات!

من بين تناقضات كلام المحبين أن يقول أحدهما للأخرى: يا حياتي. ثم يقول بعدها: أموت فيك. والسؤال الأهم: كيف تكون حياتك وأنت تموت فيها؟!، هل يمكن أن يكون مصدر الحياة مُرَغِّبا في الموت؟!، وكيف تدلل لها على أنها حياتك ما دمت تموت فيها؟!، وهل تظن أنها ستسَر بكونها حياتك وهي تراك تموت فيها؟!، وكيف سيعيش حُب محكوم عليه بالفناء؟!، وهل تقصد بكونها حياتك أنك لا تستطيع الاستغناء عنها؟؛ فكيف تحتاج إلى مَن ستموت فيها؟!، وإذا كان الموت دليل حُب وتضحية، والحياة دليل تفانٍ في أي إسعاد؛ فهل سيمهلك الموت أيها المضحي لتدلل على رغبتك في إسعاد مَن هي حياتك؟!، هكذا الحُب؛ مليء بالتناقضات!!!، ومع أننا نعيشه؛ إلا أنه من الصعب أن نفهمه!

هل حقا يموت الحب؟
الحب بين الجنسين؛ ذلك النشاط البشري الصِرف المجرد من المؤثرات العابرة لِكُنْهَيهما غالبا لا يموت؛ خاصة إن كان الحب الأول؛ حيث المشاعر ما زالت بِكْرا، حيث ميلاد العواطف البريئة المتأججة التي لا تجيد إلا مسارا واحدا وهو قلب الحبيب، حيث الحواس التي فهِمَت الانجذاب درساً أشبه بنقش خبرة لا يمحىى من الطرف الآخَر.
وإن تباعد الحبيبان فالذكرى الأحلى تجمعهما صحواً، والحُلم الجميل لا يفرقهما، اسم الحبيب لا يكاد يُذكَر حتى ينتفض القلب مرسِلا السلام، ولا تكاد تتخيل العين اللقاء حتى يبلُّ جفافها قطرات دمع.
إن حبا كهذا -وإن جرَحه التجاهل، وإن أدمته الشكوك، وإن أعاقته قلة الوفاء والثقة- لن يموت!، وسيأتي أيُّ حب ليستنير بشمسه ويتنسم عبقه، لا يجيء حبيب جديد حتى تكون المقارنة وتتداعى أيام الزمن الألذ، لا تكون عاطفة حتى يحيط بها الحب الأول إطارا ناعما حاضنا قاهرا، لا يَعِنُّ تنافُر حتى تصرخ زفرة نادمة قائلة: سقى الله!.
الحب الأول المجرد لا انتهاء له إلا في قبرَي المحبَين، ويبقى أثره عبيرا صادقا وَضَوءا هادئا كأغنية طفل يبُث الأمل في كل فؤاد حَلُم بأبْقى شراكة وجدانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق