ما فتئ هؤلاء وأولئك يتداولون مقولة هي:
"أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي".
ومع رفضي ختم المقولة بكلمة "أبدا" كما يرددها بعضهم لعدم فائدتها؛ إلا أنها بالتأبيد وبغيره تثير أفكارا أحسب أنها تخالف المعتاد، منها:
1- يبدو أن مطلق المقولة شخص أضناه الانتظار فاستعذبه وقد لا تعنيه الكرامة كثيرا؛ فهو ينتظر الآتي وليتأخر كما يشاء؛ فالترقب سيد الموقف وهو في كل الأحوال يفْضُل كثيرا اليأس من المجيء، وصاحبنا يتأخر ويتدلل كما يشاء!
2- فلنترك الكرامة قليلا ولنسأل متنزِّلين: قبلنا بمبدأ التأخر؛ ولكن كم مدته؟، وهل تختلف المدة باختلاف أهمية الوعد أو أحد طرفيه؟، مَن له الحق في تقدير المدة؟ أم أن مدة التأخر المعقولة المقبولة مهملة أيضا؟
3- المقولة لا تنطبق فقط على طرفي الوعد؛ بل تتعدى ذلك إلى ما يجب على أحدنا فعله على الفور أو ما له أجل مسمى وما يجب أداؤه في ظروف طارئة؛ ولكن لما كان الوعد هو الأكثر تفشيا في علاقات البشر وهو الأكثر تأثرا بفحوى المقولة؛ استحق التركيز؛ فهو أهم تطبيقاتها.
4- إن مستمرئي التأخر في أي مجال يوجب المبادرة يرون أن أهميتهم لا تلحظ ما لم يتأخروا فتتبين البشرية النقص بدونهم، ولو علموا حمَلة عقدة النقص هذه ما في الإيفاء في وقته؛ لتلذذوا واستمتعوا حقا بحلاوة الإنجاز.
5- ولكل متأخر أتى؛ هَب أن شخصا وعد آخر بالمجيء، ثم تأخر الواعد كعادته ثم جاء وقد قُتل الموعود أو سُرق، يا للهول!، بالتأكيد لن ينفعه التأخر ولا المقولة، وسيصرخ في سجنه متحسرا مختلطا: ليتني لم أتأخر، ليتني لم آتِ.
6- هل المقولة صحيحة على إطلاقها؟، هب أن مريضا في حالة خطرة استنجد أهله بطبيب منعدم المسؤولية، أتى الطبيب وقد مات المريض، يلومه أهل الميت فيردد الطبيب المقولة!، أظن أن الطبيب لن يخرج من البيت سالما، وقُل مثل ذلك في المطافئ والمولجين بمكافحة الجريمة والأوبئة.
7- وعلى أية حال؛ فإن المقولة تعطي فضيلة للتأخر ليفقد المنتظر إحساسه بمرور الوقت ويبدع الواعد في تبديد الأوقات، كأن الزمن لم يكن، وقصارى همة الواعد اعتذار يوجب القبول، وعلى الموعود ألا يدقق في فحوى هذا الاعتذار الشكلي.
8- ومَن يكون هذا الذي نعُد إتيانه فضيلة؟!، إنها مقولة جعلت للمتلاعبين بمصائر الأحداث قيمة، المشكلة لا تكمن في تقييم المتلاعبين فحسب؛ بل تتعدى ذلك إلى اجتراح ممارسة روتينية ترفع العتب، هقد أتى الباشا، وإياك أن تتفوه بكلمة؛ ألا يكفيك مجرد الإتيان؟
9- أكثر من ذلك؛ فقد يأتي الواعد متأخرا كما سمحت له المقولة فيجد الموعود ذهب إلى بعض شأنه، وهنا تقع الواقعة؛ إذ إن من حق هذا المتأخر المتدلل أن يقرع الموعود؛ إذ عليه الانتظار ولو إلى قيام الساعة بحجة أن الإتيان قد يحدث مهما طال التأخر، والانتظار فرض عين، يا لَانقلاب الأمور!
10- أين تلك الخيرية في التأخر إذا شُفع عدم الإتيان بالاعتذار وإطلاق سراح الموعود حيث يشاء، هذه المقولة ليست دقيقة ولا تقيم وزنا لأي اعتذار حتى عن عدم المجيء.
11- قد يقول أحدهم: إن المقصود بالمقولة إدراك طرف من فضائل المجيء المتأخر خير من تضييع كل شيء. ما هذه القناعة السلبية، أما كان الأجدر بنا أن يحفز بعضنا بعضا على اغتنام كل الخير والمسارع إلى إدراك المجد وأن التأخر يفَوِّت الكثير، لِمَ لا نثرب ونجعل المتأخر يندم ونرفع من شأن هذا الذي عرف للوفاء معنى وزمانا حقه، يا لها من مقولة مظلمة!
12- وقد يقول آخر: إنها تحارب القنوط؛ فقد يمضي امرؤ في أمر -وإن تأخر- ثم يدرك أن الطريق طويل أو أن سابقيه كُثر فينكل عن المضي. سبحان الله!؛ ومتى كانت البدايات تأخُرا؟، إن مجرد الاقتناع والانطلاق إلى أي فضيلة هي هداية ممنوحة وُفق إليها المرء، وبلوغ النهاية بيد الله؛ فلا علاقة بين ما يورده بعضهم وبين هذه المقارنة العجيبة في المقولة.
13- وبناء على النقطة السابقة؛ فإن مفهوم المقولة يخيرنا بين سلبيتين: التأخر لأي سبب ولو بغير عذر وعدم المجيء، يا للعجب!، أما لنا حظ في الإيجابية ولو بمقولة توجه مجتمعنا إلى أن يقدر بعضهم أحوال بعض؛ إذ لا تخلو العلاقات الاجتماعية من واعد وموعود.
14- لو أن الإهمال كان السمة الرئيسة بناء على ما تحث عليه المقولة؛ فإن من حق الموعود ألا ينتظر واعده؛ فهو لديه شؤونه، وهنا تنعدم الثقة في المجتمع؛ فالأصل بات أن يقول أحدهم ما لا ينوي فعله.
15- مع أنه لا يثبت لدي أصل للمقولة؛ إلا أن تكرارنا إياها في سوق تسويغ الأخطاء يؤكد ما يذهب إليه أعداؤنا من أن العرب لا يُعنَون بالوقت؛ في حين أن دين العرب الغالب وهو الإسلام وقَّت للعبادات، والعرب عُرفوا منذ الجاهلية باحترام وعودهم؛ إذن المقولة تشكل ضوءا أخضر لمن أراد النيل منا، ونحن نستمتع بتأكيدها بممارساتنا!
16- وأخيرا؛ فلنتخيل أن هذا الذي اعتاد التأخر والتشدق بهذه المقولة معدومة الفائدة؛ لو أن أحدهم فعلها معه وتأخر؛ فهل يطيب له أن تطرق المقولة أذنه، أم أنه مطرب لا يلذ له إلا سماع صدى صوته وتفاعل الحاضرين إيجابيا مع ما يقول؟
لو أن الأمر في يدي؛ لجرَّمْت كل من تَمَثِل بالمقولة وكل من لم ينكرها.
كتبه: أبو ليث عبد العزيز بن صالح الحَسني الزهراني.
في مكة عصر الأربعاء 28/11/1445 هـ، الموافق 5/7/2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق